فصل: تفسير الآية رقم (46):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (45):

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)}
{ياأيها الذين ءامَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً} أي حاربتم جماعة من الكفرة ولم يصفها سبحانه لظهور أن المؤمنين لا يحاربون إلا الكفار، وقيل: ليشمل بإطلاقه البغاة ولا ينافيه خصوص سبب النزول، ومنهم من زعم أن الانقطاع معتبر في معنى الفئة لأنها من فأوت أي قطعت والمنقطع عن المؤمنين إما كفار أو بغاة، وبنى على ذلك أنه لا ينبغي أن يقال: لم توصف لظهور إلخ وليس بشيء كما لا يخفى، واللقاء قد غلب في القتال كالنزال. وتصدير الخطاب بحرفي النداء والتنبيه إظهارًا لكمال الاعتناء ضمون ما بعده {فاثبتوا} للقائهم {وَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدْبَارَ والظاهر أن المراد إلا وأو على ما مر {واذكروا الله كَثِيرًا} أي في تضاعيف القتال، وفسر بعضهم هذا الذكر بالتكبير، وبعضهم بالدعاء ورووا أدعية كثيرة في القتال منها اللهم أنت ربنا وربهم نواصينا ونواصيهم بيدك فاقتلهم واهزمهم، وقيل: المراد بذكره سبحانه إخطاره بالقلب وتوقع نصره، وقيل: المراد اذكروا ما وعدكم الله تعالى من النصر على الأعداء في الدنيا والثواب في الآخرة ليدعوكم ذلك إلى الثبات في القتال {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي تفوزون رامكم من النصر والمثوبة، والأولى حمل الذكر على ما يعم التكبير والدعاء وغير ذلك من أنواع الذكر، وفي الآية تنبيه على أن العبد ينبغي أنه لا يشغله شيء عن ذكر مولاه سبحانه، وذكره جل شأنه في مثل ذلك الموطن من أقوى أدلة محبته جل شأنه، ألا ترى من أحب مخلوقًا مثله كيف يقول:
ولقد ذكرتك والرماح نواهل ** مني وبيض الهند تشرب من دمي

فوددت تقبيل السيوف لأنها ** برقت كبارق ثغرك المتبسم

.تفسير الآية رقم (46):

{وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)}
{وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ} في كل ما تأتون وما تذرون ويندرج في ذلك ما أمروا به هنا {وَلاَ تنازعوا} باختلاف الآراء كما فعلتم ببدر وأحد. وقرئ {وَلاَ تنازعوا} بتشديد التاء {فَتَفْشَلُواْ} أي فتجبنوا عن عدوكم وتضعفوا عن قتالهم، والفعل منصوب بأن مقدرة في جواب النهي، ويحتمل أن يكون مجزومًا عطفًا عليه، وقوله تعالى: {وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} بالنصب معطوف على {تفشلوا} على الاحتمال الأول. وقرأ عيسى بن عمر {بِهِ وَيُذْهِبَ} بياء الغيبة والجزم وهو عطف عليه أيضًا على الاحتمال الثاني، والريح كما قال الأخفش مستعارة للدولة لشبهها بها في نفوذ أمرها وتمشيه. ومن كلامهم هبت رياح فلان إذ دالت له الدولة وجرى أمره على ما يريد وركدت رياحه إذا ولت عنه وأدبر أمره وقال:
إذا هبت رياحك فاغتنمها ** فإن لكل خافقة سكون

ولا تغفل عن الإحسان فيها ** فما تدري السكون متى يكون

وعن قتادة. وابن زيد أن المراد بها ريح النصر وقالا: لم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله تعالى تضرب وجوه العدو. وعن النعمان بن مقرن قال: شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان إذا لم يقاتل أول النهار انتظر حتى تميل الشمس وتهب الرياح، وعلى هذا تكون الريح على حقيقتها، وجوز أن تكون كناية عن النصر وبذلك فسرها مجاهد {واصبروا} على شدائد الحرب {إِنَّ الله مَعَ الصابرين} بالإمداد والإعانة وما يفهم من كلمة مع من أصالتهم بناءً على المشهور من حيث أنهم المباشرون للصبر فهم متبوعون من تلك الحيثية.

.تفسير الآية رقم (47):

{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47)}
{وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن ديارهم} بعد أن أمروا بما أمروا من أحاسن الأعمال ونهوا عما يقابلها، والمراد بهم أهل مكة أبو جهل وأصحابه حين خرجوا لحماية العير {بَطَرًا} أي فخرًا وأشرًا {وَرِئَاء الناس} ليثنوا عليهم بالشجاعة والسماحة. روى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما رأى أبو سفيان أنه أحرز عيره أرسل إلى قريش أن أرجعوا فقد سلمت العير فقال أبو جهل: والله لا نرجع حتى نرد بدرًا ونشرب الخمور وتعزف علينا القينات ونطعم بها من حضرنا من العرب فوافوها ولكن سقوا كأس المنايا بدل الخمور وناحت عليهم النوائح، بدل القينات وكانت أموالهم غنائم بدلًا عن بذلها، ونصب المصدرين على التعليل، ويجوز أن يكونا في موضع الحال، أي بطرين مرائين، وعلى التقديرين المقصود نهى المؤمنين أن يكونوا أمثالهم في البطر والرياء وأمرهم بأن يكونوا أهل تقوى وإخلاص إذا قلنا: إن النهي عن الشيء أمر بضده.
{وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} عطف على {بَطَرًا} وهو ظاهر على تقدير أنه حال بتأويل اسم الفاعل لأن الجملة تقع حالًا من غير تكلف وأما على تقدير كونه مفعولًا له فيحتاج إلى تكلف لأن الجملة لا تقع مفعولًا له، ومن هنا قيل: الأصل أن يصدوا فلما حذفت أن المصدرية ارتفع الفعل مع القصد إلى معنى المصدرية بدون سابك كقوله:
ألا أيها الزاجري أحضر الوغى ** أي عن أن أحضر وهو شاذ

واختير جعله على هذا استئنافًا؛ ونكتة التعبير بالاسم أولًا والفعل أخيرًا أن البطر والرياء دأبهم بخلاف الصد فءنه تجدد لهم في زمن النبوة {والله بما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} فيجازيهم عليه.

.تفسير الآية رقم (48):

{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48)}
{وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أعمالهم} مقدر ضمر خوطب به النبي صلى الله عليه وسلم بطريق التلوين على ما قيل، ويجوز أن يكون المضمر مخاطبًا به المؤمنون والعطف على لا تكونوا، أي واذكروا إذ زين لهم الشيطان أعمالهم في معاداة المؤمنين وغيرها بأن وسوس إليهم {وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنّي جَارٌ لَّكُمْ} أي ألقى في روعهم وخيل لهم أنهم لا يغلبون لكثرة عددهم وعددهم وأوهمهم أن اتباعهم إياه فيما يظنون أنها قربات مجير لهم وحافظ عن السوء حتى قالوا: اللهم أنصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين، فالقول مجاز عن الوسوسة، والإسناد في {إِنّى جَارٌ} من قبيل الإسناد إلى السبب الداعي و{لَكُمْ} خبر {لا} أو صفة {غَالِبٌ} والخبر محذوف، أي لا غالب كائنًا لكم موجود و{اليوم} معمول الخبر ولا يجوز تعلق الجار بغالب وإلا لانتصب لشبهه بالمضاف حينئذٍ، وأجاز البغداديون الفتح وعليه يصح تعلقه به، و{مِنَ الناس} حال من ضمير الخبر لا من المستتر في {غَالِبٌ} لما ذكرنا، وجملة إني جار تحتمل العطف والحالية {فَلَمَّا تَرَاءتِ الفئتان} أي تلاقى الفريقان وكثيرًا ما يكنى بالترائي عن التلاقي وإنما أول بذلك لمكان قوله تعالى: {نَكَصَ على عَقِبَيْهِ} أي رجع القهقرى فإن النكوص كان عند التلاقي لا عند الترائي، والتزام كونه عنده فيه خفاء. والجار والمجرور في موضع الحال المؤكدة أو المؤسسة أن فسر النكوص طلق الرجوع، وأيًا ما كان ففي الكلام استعارة تمثيلية، شبه بطلان كيده بعد تزيينه بمن رجع القهقرى عما يخافه كأنه قيل: لما تلاقتا بطل كيده وعاد ما خيل إليهم أنه مجيرهم سبب هلاكهم.
{وَقَالَ إِنّي بَرِيء مّنْكُمْ إِنّي أرى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنّي أَخَافُ الله} تبرأ منهم إما بتركهم أو بترك الوسوسة لهم التي كان يفعلها أولًا وخاف عليهم وأيس من حالهم لما رأى إمداد الله تعالى المسلمين بالملائكة عليهم السلام، وإنما لم نقل خاف على نفسه لأن الوسوسة بخوفه عليهم أقرب إلى القبول بل يبعد وسوسته إليهم بخوفه على نفسه، وقيل: إنه لا يخاف على نفسه لأنه من المنظرين وليس بشيء.
وقد يقال: المقصود من هذا الكلام أنه عظم عليهم الأمر وأخذ يخوفهم بعد أن كان يحرضهم ويشجعهم كأنه قال: يا قوم الأمر عظيم والخطب جسيم وإني تارككم لذلك وخائف على نفسي الوقوع في مهاوي المهالك مع أني أقدر منكم على الفرار وعلى مراحل هذه القفار، وحينئذٍ لا يبعد أن يراد من الخوف الخوف على نفسه حيث لم يكن هناك قول حقيقة، وقال غير واحد من المفسرين: أنه لما اجتمعت قريش على المسير ذكرت ما بينها وبين كنانة من الأحنة والحرب فكاد ذلك يثبطهم فتمثل لهم إبليس بصورة سراقة بن مالك الكناني وكان من أشراف كنانة فقال لهم لا غالب لكم اليوم وإني جار لكم من بني كنانة وحافظكم ومانع عنكم فلا يصل إليكم مكروه منهم فلما رأى الملائكة تنزل من السماء نكص وكانت يده في يد الحرث بن هاشم فقال له: إلى أين أتخذ لنا في هذه الحالة؟ فقال له: إني أرى ما لا ترون فقال: والله ما نرى إلا جعاسيس يثرب فدفع في صدر الحرث وانطلق وانهزم الناس فلما قدموا مكة قالوا: هزم الناس سراقة فبلغه الخبر فقال: والله ما شعرت سيركم حتى بلغتني هزيمتكم فلما أسلموا علموا أنه الشيطان، وروى هذا عن ابن عباس.
والكلبي. والسدي. وغيرهم، وعليه يحتمل أن يكون معنى قوله: إني أخاف الله إني أخاف أن يصيبني كروه من الملائكة أو يهلكني، ويكون الوقت هو الوقت الموعود إذ رأى فيه ما لم ير قبله، وفي «الموطأ» ما رؤي الشيطان يومًا هو أصغر فيه ولا أدخر ولا أحقر ولا أغيظ منه في يوم عرفة لما يرى من تنزل الرحمة وتجاوز الله تعالى عن الذنوب العظام إلا ما رؤي يوم بدر فإنه قد رأى جبريل عليه السلام يزع الملائكة عليهم السلام، وما في كتاب «التيجان» من أن إبليس قتل ذلك اليوم مخرج على هذا وإلا فهو تاج سلطان الكذب، وروى الأول عن الحسن واختاره البلخي. والجاحظ، وقوله سبحانه: {والله شَدِيدُ العقاب} يحتمل أن يكون من كلام اللعين وإن يكون مستأنفًا من جهته سبحانه وتعالى، وادعى بعضهم أن الأول هو الظاهر إذ على احتمال كونه مستأنفًا يكون تقريرًا لمعذرته ولا يقتضيه المقام فيكون فضلة من الكلام، وتعقب بأنه بيان لسبب خوفه حيث أنه يعلم ذلك فافهم.

.تفسير الآية رقم (49):

{إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)}
{إِذْ يَقُولُ المنافقون} ظرف لزين أو نكص أو {شديد العقاب} [الأنفال: 48]، وجوز أبو البقاء أيضًا أن يقدر اذكروا {والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ} أي الذين لم تطمئن قلوبهم بالإيمان بعد وبقي فيها شبهة، قيل: وهم فتية من قريش أسلموا كة وحبسهم آباؤهم حتى خرجوا معهم إلى بدر. منهم قيس بن الوليد بن المغيرة. والعاص بن منبه بن الحجاج. والحرث بن زمعة. وأبو قيس بن الفاكه، فالمرض على هذا مجاز عن الشبهة.
وقيل: المراد بهم المنافقون سواء جعل العطف تفسيريًا أو فسر مرض القلوب بالأحن والعداوات والشك مما هو غير النفاق، والمعنى إذ يقول الجامعون بين النفاق ومرض القلوب، وقيل: يجوز أن يكون الموصول صفة المنافقين، وتوسطت الواو لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف لأن هذه صفة للمنافقين لا تنفك عنهم، أو تكون الواو داخلة بين المفسر والمفسر نحو أعجبني زيد وكرمه، وزعم بعضهم أن ذلك وهم وهو من التحامل كان إذ لا مانع من ذلك صناعة ولا معنى، والقول بأن وجه الوهم فيه أن المنافقين جار على موصوف مقدر أي القوم المنافقون فلا يوصف ليس بوجيه إذ للقائل أن يقول: إنه أجرى المنافقون هنا مجرى الأسماء مع أن الصفة لا مانع من أن توصف وقيام العرض بالعرض دون إثبات امتناعه خرط القتاد، ومن فسر الذين في قلوبهم مرض بأولئك الفئة الذين أسلموا كة قال: إنهم لما رأوا قلة المسلمين قالوا: {غَرَّ هَؤُلاء} يعنون المؤمنين الذين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم {دِينَهُمُ} حتى تعرضوا لمن لايدي لهم به فخرجوا وهم ثلثمائة وبضعة عشر إلى زهاء الألف، وعلى احتمال جعله صفة للمنافقين يشعر كلام البعض أن القول لم يكن عند التلاقي، فقد روى عن الحسن أن هؤلاء المنافقين لم يشهدوا القتال يوم بدر.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال: هم يومئذٍ في المسلمين، وفي القلب من هذا شيء، فإن الذي تشهد له الآثار أن أهل بدر كانوا خلاصة المؤمنين {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله} جواب لهم ورد لمقالتهم {فَإِنَّ الله عَزِيزٌ} غالب لا يذل من توكل عليه ولا يخذل من استجار به وإن قل {حَكِيمٌ} يفعل بحكمته البالغة ما تستبعده العقول، وتحار في فهمه ألباب الفحول. وجواب الشرط محذوف لدلالة المذكور عليه أو أنه قائم مقامه.